الحروب والتغيرات المناخية

تعتبر الحروب منذ فجر التاريخ جزءًا من التجربة الإنسانية؛ فعندما نتذكر الحروب تأتي إلى الأذهان مناظر الدماء والجثث الشنيعة وهدم البيوت وتفكيك الأُسر وترك الأوطان. ولا تقتصر الآثار السلبية للحروب على هذا الصعيد فقط، بل تُعتبر البيئة من أهم الضحايا المجهولين الذين لا يصدر عنهم صوت ولا اعتراض أثناء الحروب. فتتعرض البيئة إلى تلوث الهواء وتدمير النباتات والحيوانات وتدمير الحياة البحرية من شعاب مرجانية وأسماك التي قد يمتد تأثيرها إلى عشرات السنوات مما يؤثر على الإنسان ويساهم أيضًا في زيادة التغير المناخي. ففي نفس الوقت الذي نجد فيه العلماء والمفكرين والجهات المختصة بمعالجة التغيرات المناخية يصارعون للحفاظ على المعدلات الطبيعية لدرجة الحرارة ويعملون على إيقاف ارتفاعها، نرى حربًا جديدة تضاف على قائمة الحروب الحالية، مثل الصراع بين روسيا وأوكرانيا، متوقع أن تكون تبعاتها كارثية على التغيرات المناخية بسبب أزمة الطاقة التي ستولدها. تُعتبر الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وروسيا من بين الدول الثلاث الأولى في تجارة الوقود. وروسيا هي المصدر الأول للغاز الطبيعي إلى أوروبا، وبسبب الصراع الدائر بين روسيا والغرب، فإن أمن الطاقة الأوروبي تحت تهديد بوتين. رفض الرئيس الروسي أخذ تكلفة الغاز الطبيعي سواء بالدولار الأمريكي أو باليورو؛ وأصر على البيع بعملة بلاده، الروبل الروسي. بدأت الولايات المتحدة وأوروبا في إعادة تخزين مخزونهما من الفحم كإجراء احترازي في حال رفضت روسيا بيع الغاز الطبيعي لها أو إذا قررت التوقف عن دعمها ماليًا لتخفيف ضغط الحرب على أوكرانيا. ونجد إنه بالفعل عادت ألمانيا وبعض دول الجوار إلى الاعتماد على الفحم مرة أخرى بشكلٍ مؤقت لحين حل الأزمة أو إيجاد مصادر بديلة للغاز الطبيعي. وتكمن المشكلة في عدم معرفة طول هذه الفترة المؤقتة ومدي استمرارها، فقد تمتد إلى عدة أعوام. ومن المتوقع ألا يقتصر الأمر على ألمانيا وبعض الدول المجاورة، بل سيشمل كل أوروبا بعدما كانت في الطريق إلى منع استخدام الفحم نهائيًا بحلول عام 2038[1]. ومما زاد الوضع تعقيدًا الأعمال التخريبية التي تعرض لها خطي غاز “نورد ستريم 1″؛ والذي بدأ أعماله في 2011 ويتمكن من نقل 170 مليون متر مكعب يوميًا من الغاز، و”نورد ستريم 2″؛ الذي كان من المفترض أن ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز ولكن تم وقف اعتماده من قِبل ألمانيا ردًا على الحرب الروسية على أوكرانيا[2]. وبالنظر إلى الأضرار التي أصابت خطي الغاز، من المتوقع ألا تنتهي عمليات الإصلاح قبل ستة أشهر في أفضل تقدير، مما يؤكد حقيقة أن الشتاء الأوروبي القادم سيكون الأصعب من نوعه مع ارتفاع أسعار الغاز وندرته، وبالتالي ارتفاع أسعار الكهرباء اللازمة للتدفئة، مما يرجعنا إلى استخدام الخشب كمصدر للتدفئة؛ أي قطع أعداد هائلة من الأشجار لهذا الغرض. مشكلة العودة إلى استخدام الفحم ليست فقط في استخراجه أو تصنيعه أو نقله أو تداوله، بل تكمن في عملية احتراقه؛ حيث يعتبر أكبر مساهم في زيادة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. تنتج عملية توليد الكهرباء باستخدام حرق الفحم ما يقرب من ضعف الغازات المُسببة للاحتباس الحراري لكل كيلو وات مقارنةً بالتوليد باستخدام الغاز الطبيعي[3]. في حالة حدوث هذا التحول في مصادر الطاقة، فإنه سيعرض محاولات المحافظة على زيادة درجة حرارة الأرض (بمقدار 1.5 درجة مئوية فقط لا أكثر) والجهود القائمة لمحاولة خفض تركيز انبعاث ثاني أكسيد الكربون (إلى 350 جزء من المليون) للخطر. في أثناء الحروب والهجمات المسلحة، تتعرض المساحات الخضراء للتدمير نتيجة احتراقها؛ مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، بالإضافة إلى تدمير الموائل الطبيعية للحيوانات والطيور وغيرها من الكائنات الحية التي تتخذ من الغابات والمساحات الخضراء بيئة لها. ومع تدمير المساحات الخضراء، تزداد صعوبة التخلص من ثاني أكسيد الكربون فيبقى في الغلاف الجوي لوقتٍ أطول. تستهلك الجيوش كميات هائلة من الوقود الأحفوري، مما يساهم بشكلٍ مباشر في الاحتباس الحراري. على سبيل المثال، إذا كان الجيش الأمريكي دولة لكان احتل المرتبة الثامنة والأربعين من حيث إجمالي الانبعاثات حول العالم[4]. نظرًا لأن معظم الدول تستثمر المزيد من الأموال في جيوشها، فإن استخدام الوقود الأحفوري يرتفع سواءً مع وجود صراع أو بدونه. وبينما يساهم الجيش (حتى بدون الاشتراك في حروب) في تغير المناخ، فإن الحرب النشطة تزيد من هذه المساهمة أضعافًا مضاعفة. على سبيل المثال، أطلقت الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها أكثر من 337 ألف قنبلة وصاروخ على دول أخرى على مدار العشرين عامًا الماضية[5]. وتحرق الطائرات المُستخدمة في تحميل تلك الأسلحة ونقلها ما يقارب 16 لتر من البنزين لكل كيلومتر[6]. ومع تفجير كل قنبلة تزداد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، بالإضافة إلى تدمير التربة والمساحات الخضراء التي تعتبر أحد أهم مصارف ثاني أكسيد الكربون. تسببت الحرب الأمريكية المزعومة على الإرهاب في إنتاج 1.2 مليار طن متري من الغازات الدفينة في الغلاف الجوي والتي لها تأثير في زيادة الإحتباس الحراري على الكوكب أكثر من الانبعاثات السنوية لـ257 مليون سيارة[7]. تتضرر البنية التحتية لمياه الشرب بشدة في أثناء الحروب، مما يُؤثر على توافر المياه كما حدث في سوريا بعد 10 سنوات من الحرب[9]، بالإضافة إلى تلوث المسطحات المائية المجاورة للمعسكرات الحربية الناتج عن إلقاء المخلفات بها بشتى أنواعها، وأخطرها مخلفات الوقود أو الكيماويات المستخدمة في صيانة المراكب الحربية[10]. هذا بالإضافة إلى اختبارات الأسلحة مثل القنابل النووية والهيدروجينية التي تجريها دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وكوريا الشمالية[11]، والتي يمكن أن تؤدي إلى عدة آثار سلبية كتلوث التربة والمياه الجوفية والتلوث البحري بالمواد الكيميائية والمعادن التي قد تشمل الزئبق والحديد والبلوتونيوم. وقد يكون لهذا عواقب وخيمة على النباتات والكائنات البحرية في هذه المناطق، مما يؤدى إلى اضطرابات في السلسلة الغذائية[12]. تعتبر صحة الموارد الطبيعية وسلامتها حاليًا وفي المستقبل من أهم أهداف التنمية المستدامة في ظل التغيرات المناخية التي يمر بها الكوكب والتي تُؤثِّر على خصوبة التربة نتيجة للجفاف الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرها السلبي على زراعة المحاصيل في مختلف البقاع، بالإضافة إلى تناقص الموارد المائية المستمر بسبب زيادة نسبة التبخر للمسطحات المائية وزيادة معدل هطول الأمطار مع اختلاف توزيعها مما يصعب الاستفادة منها. تلك الآثار السلبية للتغير المناخي تضع العالم كله أمام أزمة جديدة وهي تهديد الأمن الغذائي الدولي. بسبب غياب الرقابة والتجاهل التام للبروتوكول الآمن للتخلص من السموم أو المواد الكيميائية الضارة، نجد إنه بعد الحرب العالمية الثانية تم تعبئة بقايا الأسلحة الكيميائية، مثل غاز الخردل وسموم الزرنيخ، في براميل والتخلص منها مباشرةً في المحيط رغم خطورة ذلك على الكائنات البحرية وأيضًا على الإنسان في حال تحلل البراميل وخروج المواد السامة منها[13]. يعني تلوث البحار والمحيطات تدمير فرصة الكوكب في تقليل أزمة الاحتباس الحراري والتغير المناخي؛ حيث تعتبر البحار والمحيطات أكبر مصرف لثاني أكسيد الكربون بفضل وجود الهائمات النباتية وهي كائنات دقيقة تعمل

اشترك في قائمتنا الأخبارية