Search
Close this search box.

ما فعله التطوير بالأخضر

في مواجهة تحديات التغير المناخي والاحتباس الحراري، تزداد أهمية الحدائق والمساحات الخضراء. لكن ز يادة الرقعة الخضراء في مدننا تواجه مزيدًا من التحديات، بدءاً من إدراك أهميتها وجدواها، ومن يتحمل نفقات تنفيذها، وصولا إلى حمايتها ورعايتها وضمان استدامتها. وشهدت الإسكندية تغييراتٍ عدة في أهم وأكبر حدائقها، من ناحية جهات الإشراف والمسؤولية، وكذا من طبيعة الأنشطة التي تتم فيها، وهو ما ينعكس على المجال العام. تستخدم هذه الورقة أحدث ما تم رصده وتوثيقه بخصوص المساحات الخضراء بمدينة الإسكندر ية لتسليط الضوء عليها كونها أداة أساسية في مواجهة آثار التغير المناخي الوخيمة على المدينة الساحلية، والتي تعد من أكثر المدن تضررًا في المستقبل القريب من التغير المناخي، إضافة إلى أهميتها كمساحات ضمن المجال العام.

المقدمة

تعُد الإسكندر ية مدينة ذات سحر خاص، تعُرف بشواطئها وحدائقها التي تعمل كرئات تتنفس منها المدينة، وتعتبر ملاذًا لأهلها للهروب من صخب الحياة اليومية والتجمعات السكانية المتزايدة. غير أنه، وللأسف، في السنوات العشر الأخيرة، لوحظ تناقص واضح في مساحات الشواطئ والحدائق والمناطق الخضراء، مما يثير القلق. هذا التقلص يأتي على حساب التوسع العمراني وإقامة المشروعات التجار ية والربحية، وهو ما يعُد تحدياً يواجه التوازن البيئي والتراث الثقافي للمدينة.

يبني البحث فرضياته الرئيسية على أدبيات الحق في المدينة، باعتباره أكثر من مجرد حق فرد أو مجموعة في الوصول إلى الموارد الموجودة في المدينة، أو حتى حق في المعرفة والوصول، وإنما، بحسب ديفيد هارفي؛ أحد أبرز المنظرين للحق في المدينة، هو “الحق في تغيير المدينة وإعادة اختراعها لتلائم أهواء قلوبنا بدرجة أكبر؛ وهو علاوة على ذلك، حق جمعي أكثر منه حق فردي، بما أن إعادة اختراع المدينة تعتمد حتمًا على ممارسة قوة جماعية من خلال عمليات التطوير العمراني (الحضرنة) (Urbanisation)”. ويضيف هارفي ما يريد أن يؤكد عليه في هذا السياق: “حقيقة أن حرية أن نصنع أنفسنا ومدننا ونعيد صنعها هي واحدة من أغلى حقوق الإنسان وأكثرها تجاهلاً”. 

كما يُقال إن المدن شأنها شأن البشر، لها شخصيات مختلفة، وطابع خاص يميز كل منها عن الأخرى، كما أن لها أعمار افتراضية مرتبطة طرديًا بقدرتها على تطوير مرافقها وخدماتها مع الحفاظ على طابعها المعماري الخاص الذي يعكس هويتها الثقافية، “وصون الطبيعة في نطاقها”. قد تبدو هذه العبارة السابقة أدبية إلى حد ما، إلا أن الساكن المعاصر للإسكندرية سيتفق إلى حدٍ كبير مع مضمونها، لقناعةٍ ترسخت في ذهن الكثيرين بأن الإسكندرية قد فقدت تدريجيًا أغلب ما يميزها كمدينة كانت من أكثر المدن المصرية خصوصيةً، وتحولت لمدينة أخرى يتعرف عليها سكانها بالكاد.

وتعد التغييرات سريعة الوتيرة وجذرية الأثر التي حدثت وتحدث ولازالت آثارها ممتدة، في الأماكن العامة بالإسكندرية خلال ما يزيد عن عقدٍ كامل من أبرز التطورات التي تستدعى التركيز البحثي لفهمها ودراسة تأثيراتها، وكذا إمكانية التوقع والتنبؤ لتأثيرات ونتائج أخرى محتملة. 

تشمل الأماكن العامة الحدائق، والمسطحات الخضراء، والشواطئ، وغيرها. ويتناول البحث الحدائق، ضمن السياق الأوسع للمسطحات الخضراء والمجال العام. وتتنوع أشكال وتصنيفات المسطحات الخضراء في المدينة من حدائق، ومشاتل، وأشجار على قارعة الطريق، وكذا جنائن صغيرة خاصة لمواطنين أو أشخاص اعتباريين سواء شركات، أو عمارات سكنية، أو فيلات، وغيرها. ويتمحور تركز الورقة على الحدائق، والتي تخضع حوكمتها للدولة، أيا كانت الجهة المسؤولة عن ذلك مباشرةً، سواء تابعة للسلطات المحلية، أو سلطات مركزية من وزارات، وهيئات حكومية.  

وبشكل عام، توفر المسطحات الخضراء متنفسًا طبيعيًا يساهم في خفض انبعاثات الكربون، والحد من التدهور السريع الناجم عن تأثيرات التغير المناخي السلبية، من ارتفاعات وانخفاضات شديدة في درجات الحرارة، والحد من تأثير الجزر الحرارية. تبدأ أهمية المسطحات الخضراء من أهمية الشجرة الواحدة في حياتنا، ليس فقط أهميتها في الثمرة النهائية التي تقدمها، ولكن أهميتها في الظل الذي توفره، وتنقية الجو من خلال خفض انبعاثات الكربون في الهواء. ويضاف إلى ذلك أهمية الحدائق كحيز أكبر للمسطحات الخضراء، وليس مجرد نباتات أو أشجار وحيدة على قارعة طريق أو في أماكن متفرقة. إذ تتيح الحدائق تشكيل عالم من التفاعلات الاجتماعية والأنشطة، من رياضة وقراءة ولعب وترفيه وغيرها من الممارسات ضمن المجال العام. وهي حق للمواطنين في المدينة، تتضاعف أهميته مع انتشار أنماط التحديث، والتي تسهم في زيادة الاحتباس الحراري، بما يزيد من اختناق المدن، والحاجة الكبيرة إلى الحدائق كرئة للمدن، ومجال عام للبشر وحيوانات المدينة، وغيرها من الكائنات الحية.     

تنقسم الورقة إلى قسمين، الأول يوضح طبيعة التحديات والتغيرات المناخية وتأثيراتها على الإسكندرية، مما يزيد من أهمية الحاجة إلى مضاعفة المسطحات الخضراء كأداة لتقليل حدة تأثيرات التغير المناخي السلبية، وكمتنفس ضمن المجال العام في نفس الوقت. بينما يستعرض القسم الثاني، محورين رئيسيين، أولهما البحث عن موقع الحدائق والمسطحات الخضراء في خطط الاستثمارات العامة الموجهة للإسكندرية، وكذا خطط بعض أكبر الأحياء وأكثرها كثافة سكانية. وذلك ضمن منظور كلي لموقع الأخضر ضمن الخطط العامة الرسمية.  بينما المحور الثاني ينتقل إلى أرض الواقع؛ حيث يركز على استعراض أنماط مشروعات التطوير التي شهدتها الإسكندرية طيلة أكثر من عقد من 2013 وصولاً إلى 2023، عن طريق التركيز على ثم الانتقال إلى تحليل بعض الأنماط التي تم رصدها وتوثيقها فيما جرى من أعمال تطوير طالت الحدائق والمساحات العامة بالمدينة. 

صورة الغلاف من تصوير: أحمد ناجي دراز

اقرأ ايضًا:

اشترك في قائمتنا الأخبارية